إذا كان التاريخ لا يشكل غاية الرواية، فإنه لا مانع من أن يكون إحدى الوسائل التي يمكن بها جسّ نبض مجتمع معين ورصد إيقاع تحولاته. من على هذه الشرفة يمكن لنا أن نطل على رواية "إمرأة من ظفار" للكاتب أحمد الزبيدي التي يواصل فيها سرده لثورة ظفار التي بدأها في أعمال سابقة ولكن هذه المرة على لسان امرأة ظفارية "منال" تتزوج رجلاً من الشمال، فيحكي قصتها قبل وأثناء وبعد ثورة ظفار، الثورة التي بدأت منذ منتصف الستينيات واستمرت لما يقارب العقد في سلطنة عُمان.
وفي الرواية يفكك أحمد الزبيدي، من خلال حكاية منال وأسرتها، بدايات تشكل الوعي الثوري لدى الظفاريين، وموقف السلطات الحاكمة آنذاك، ومن محطات هذه السيرة يأتي الروائي على مسارات الجبهة الشعبية وتولي أليسار قيادتها، وانضمام الكثير إلى الجبهة، ومنهم أبطال ارواية. ولكن، بعد أن أشرفت الحرب على الإنتهاء وكما في كل الحروب "أصبح العديد من قادة الثوار موظفين كباراً لدى النظام (...) أما الأغلبية الصامتة من أبناء الشعب فقد انصرفت إلى معالجة شؤونها ومداواة جراح الحرب الغائرة في أعماق العظم والنفس ...". بهذا النضج يروي الزبيدي ثورة بلاده متنقلاً من الواقعة إلى الذكرى بسهولة ويسر دونما افتعال. وهو يفعل ذلك بخطاب روائي متماسك، وبلغة سردية رشيقة، هي في منزلة وسطى بين الأدب والمباشرة، وهي لغة حارّة تعرف كيف تجعل الحدث الماضي راهناً طازجاً، وهي على قدر من التلقائية تجعل السرد قادراً على النفاذ إلى المتلقي بسهولة.
"تفتحت أكمام مشتل أزهار بامتداد السهول والربى والتلال، ومن قمم الجبال حتى الوديان السحيقة كان ثمة عبير فواح يأتيك مع النسيم العليل، فتنبعث حلقات الشعراء يتبارون بـ «المشعير» والـ«دبرارت» مرددين أشعار الحب الرقيقة، وحكايات المحارب الحميري، وذكرى الذين رحلوا إلى رحِم الغدران والينابيع، رحم أم ووطن شعب ظفول «ظفار» العظيم."
. لأنك الحب الذي يخلو من الزوال والفناء.. لأنك الحب الذي يشبع عفة.. لأنك الجنون الذي إنتشلني من حياة الرفاهية والتكلف إلى حُب البساة والتواضع لأنني أيقنت أنك ستكون معي حتى تنكمش جلودنا شيباً .لهذا أيقنتك حُباً
لزام علينا أن نتأمل سر الإبداع الهومري في السرد الملحمي؛ إذا لا يحفل هوميروس بأن يحكي ملحمته "الإلياذة" ما حدث فقط، ولكنه يحفل أكثر بتقديم كنة ما حدث وتصوير العالم الذي وقع فيه هذا الحدث. فنجد الأحداث تغطي الكون من فوق جبل الأوليمبوس -السماء- الثلجية إلى أعماق البحر الهائج والغابات المحترقة، بل وأعماق النفس الإنسانية ذاتها في كافة أحوالها من السراء والضراء.
وتغطي الأحداث كذلك الآلهة والبشر ومملكة الحيوان والطير. فنحن إذا إزاء تصوير لحالة وجودية كونية لا حدث فردي عابر. نحن إزاء نظام متكامل تتفاعل فيه كل السمات ومختلف مقومات الأحياء والأشياء، بحيث نحصل في النهاية على استكشاف شعري للكون ونظام عمله.